التخطي إلى المحتوى الرئيسي

ماذا بعد موت ما بعد الحداثة؟


يقول آلان كيربي ما بعد الحداثة ماتت وتم دفنها، وأتى في مكانها نموذج جديد للسلطة وللمعرفة تشكل تحت ضغط تكنولوجيا جديدة وقوى اجتماعية معاصرة.
Pessimist-Optimist by M. C. Escher, 1944 India ink, colored pencil, white paint.

أمامي هنا نموذج تم تحميله من موقع قسم اللغة الإنجليزية لأحد الجامعات البريطانية. يحمل النموذج الواجبات والفروض المطلوبة وقوائم روايات للقراءة أسبوع بأسبوع، روايات مصنفة على أنها ’روايات ما بعد الحداثة‘، لن أذكر الجامعة، ليس لأن النموذج المطروح يشوبه نقص؛ بل لأن هذا النموذج سيتم تعميمه على جميع أقسام اللغة الإنجليزية في البلاد مع بدء العام الدراسي الجديد. يَفترض النموذج المطروح أن ’’ما بعد الحداثة‘‘ لازالت قائمة ومزدهرة وفيها النبض: وسيقدم ’’موضوعات عامة عن ’ما بعد الحداثة‘ و’ما بعد التحديث‘ من خلال دراسة علاقتهم بالكتابات الخيالية المعاصرة‘‘. قد يجعل هذا ’ما بعد الحداثة‘ تبدو على أنها معاصرة، لكن بالعكس هذا يؤكد أنها ماتت ودفنت.

تؤكد فلسفة ما بعد الحداثة أن المعارف والمعاني مراوغة، ويصعب الوقوف عليها. يتم التعبير عن هذا غالبا في صورة ساخرة من الوعي بالنفس. كذلك فإن الجدل حول ’موت ما بعد الحداثة‘ اتضح بالفعل كقضية فلسفية. وقد أكد بعض الناس أننا لبعض الوقت اعتقدنا في أفكار ما بعد الحداثة، لكن سرعان ما تخلينا عن ذلك وأصبحنا نعتقد في الواقعية الحرجة ’
critical realism‘. يأتي ضعف هذا التحليل من ناحية إنه أكاديمي، يركز على ممارسات وافتراضات فلاسفة قد يكونوا أو لا يكونوا على شفا التحول أو تحولوا بالفعل عن آرائهم – وقد يأخذ بعض الأكاديمين هذا المنحنى، في النهاية، سيفضل البعض الالتزام بميشيل فوكو (كمرشد ما بعد حداثي)1 بدلًا من تجربة شيء آخر. ومع ذلك، ستظل القضية الأكثر إلحاحا هي أن ما بعد الحداثة قد ماتت ويكفيك مجرد النظر على النتاج الثقافي خارج أسوار الأكاديمية لتدرك ذلك.

ولد معظم الطلاب الذين سيدرسون الأدب الخيالي ما بعد الحداثي عام 1985 وما بعده. وكل النصوص الواردة في النموذج، ماعدا نص تمهيدي، قد كتبت قبل ولادتهم. وغير إنها ليست ’معاصرة‘ – هي كتبت أساسا في عالم مختلف، قبل ميلاد الطلبة: امرأة الملازم الفرنسي، ليالي السيرك، لو أن مسافرا في ليلة شتاء، هل يحلم الإنسان الآلي بخراف كهربائية؟ (وعَدَّاء جامح)، الضجة البيضاء: هذه هي ثقافة الآباء والأجداد. حتى أن بعض النصوص مثل ’مكتبة بابل‘ كتبت حتى قبل أن يأتي آبائهم للوجود. استبدل هذه الروايات القديمة بروايات ما بعد حداثية أخرى مثل: محبوبة، بغبغاء فلوبير، واترلاند لجرهام سويفت، بكاء لوط 49، النيران الخافتة، المذبح رقم 5، أي شيء لبرين استانلي جونسون – كل هذه الروايات تؤدي نفس الغرض. هذه النصوص التي لا تعرف شيء عن موسيقى الروك أو التلفزيون، عن عن التكنولوجيا الحديثة ووسائل الاتصال والإعلام، عن الهواتف النقالة والبريد الإلكتروني والإنترنت، عن الحاسبات الآلية التي وصلت كل بيت، عن الوصول للقمر الذي بات اليوم أمرا مفروغ منه بالنسبة للطلاب.

لهذا السبب، فنماذج الروايات البريطانية الخيالية ما بعد الحداثية قديمة للغاية، بعبارة أخرة، دخلت مرحلة الكهولة. فلنلق نظرة على سوق المنتجات الثقافية: اشتري رواية صادرة في آخر 5 سنوات، شاهد فيلم منتج في القرن الواحد والعشرين، إسمع أحدث صيحات الموسيقى – والأهم من هذا كله، اجلس وشاهد التلفزيون لمدة أسبوع، ستجد إنه من الصعب الوقوف على أي شيء ما بعد حداثي. بالمثل، يمكن لأي شخص الذهاب للمؤتمرات الأدبية (كما فعلت في يوليو)، ستجد نفسك بين كميات كبيرة من الأوراق الأدبية لا يأتي أي منها على ذكر نظرية دريدا، فوكو أو جان بودريار. تقاعدت هذه النظريات وعجزت عن شغل الحوار بين الأكاديمين، وهذا دليل يشهد على موت ما بعد الحداثة. كذلك تخلى منتجي المواد الثقافية المقروءة، المرئية والمسموعة عن إنتاج مواد تتعلق بما بعد الحداثة. سيبدو القصص الماورائي للعوام غير ذات أهمية، كمذاكرات بيرت أستون إيلي الساخرة (الحديقة القمرية) – فإذا كانت الروايات الحداثية التي ظلت تكتب حتى عام 1950 و1960، أصبحت الآن طي النسيان، فالمكان الوحيد الذي لازالت ’ما بعد الحداثة‘ موجودة فيه هو الرسوم الكاريكاتورية للأطفال مثل شريك والخارقون – وقد تجبر الآباء على الجلوس أمام التلفزيون مع أطفالهم لإرضائهم. هذا هو المستوى الذي وصلت له ما بعد الحداثة، مصدر لثقافات البوب التي تستهدف الأطفال دون 8 سنوات.

لكن ما المقصود بـ’ما بعد‘ ما بعد الحداثة؟
أعتقد أن ما يحدث أكثر من مجرد تغيير في النمط الثقافي. مفهومنا للسلطة، للمعرفة، للأنا، للواقع وللزمن قد تغير فجأة وإلى الأبد. هناك فجوة بين معظم المحاضرين والطلبة، كتلك الفجوة التي ظهرت في أواخر 1960، لكن لأسباب مختلفة. فالتحول من الحداثة إلى ما بعد الحداثة لم ينبع من إعادة صياغة عميقة للعلاقة بين العرض والطلب في الثقافة؛ بل حدث بسبب لهجة خطابية مبالغ فيها، عندما تحول من كتبوا روايات كـ’يوليوس‘ و’إلى المنارة‘ إلى كتابة روايات كـ’النيران الخافتة‘ و ’الغرفة الدموية‘. لكن في أواخر التسعينات وأوائل الألفية الجديدة ، أعادت التكنولوجيا الحديثة هيكلة طبيعة الكاتب والقاريء والنص والعلاقة بينهم بعنف وإلى الأبد.

ما بعد الحداثة مثلها مثل الحداثة والرومانسية من قبلهم، كانت تضفي على الكاتب عنها قدر من الأهمية مبالغ فيها سواء حاول الكاتب إظهار نفسه أو إنكارها. على عكس الثقافة الموجودة بين أيدينا الآن تضفي على المُتلقي وليس الكاتب أهمية وكأنه شارك في كتابه أو هو من كتب العمل برمته. قد يرى المتفائلون أن هذه هي ’دمقرطة الثقافة‘، لكن المتشائمون يرون أنها دليل على أن المنتجات الثقافية المعاصرة تافهة وضحلة (على الأقل حتى الآن).

إسمحوا لي أن أشرح ذلك، تصور الثقافة المعاصرة ما بعد الحداثة في مشهد يجلس فيه الفرد عاجز، يطرح أسئلة عن الحقيقة كإشكاليات. لذلك ارتبط الفرد ارتباط وثيق بشاشات السينما والتلفزيون. ظهر بعد ذلك نوع من الحداثة الزائفة، حيث أصبحت مشاركة المُتلقي جزء من الناتج الثقافي. يظهر ذلك في كل برامج التلفزيون أو الراديو (أو معظمها) وفي النصوص التي يوجها ويحرك مسارها مشاركات المشاهد أو المستمع – تكون فيه الاتصالات الواردة للبرامج حقيقة برعاية "الأخ الأكبر"، لذلك أسميها حداثة زائفة، فالمتصل ليس فعلا المشاهد أو المستمع المستهدف المطلوب رأيه.

بحكم التعريف، فالمنتجات الثقافية للحداثة الزائفة لا تخرج لحيز الوجود مالم يساهم الفرد بنفسه في ذلك. فمثلا؛ رواية آمال عظيمة ستظل موجودة سواء قرأها أحد أم لم يقرأها. فبمجرد انتهاء تشارلز ديكنز منها ونشرها للعالم، أصبحت "المادة الأدبية" و "الكلمات المكتوبة" بالفعل قد وضعت – بغض النظر عن اختلاف التأويلات حول الرواية أو اختلاف تناول الناس. فنص الرواية وموضوعها وضعهم الكاتب، وطبعتها المطبعة، وأطلقها الناشر، دون تدخل من القراء الذين يتمتعون فقط بفضاء تأويل معنى الرواية. من ناحية أخرى، في عصر "الأخ الأكبر" رواية بعينها لن تخرج لحيز الوجود ما لم يرفع رجال "الأخ الأكبر" السماعة للإدلاء برأيهم فيها. يصبح التصويت بالتالي جزء من المادة العلمية التي يقوم عليها البرنامج – فالمشاهدين أنفسهم هم من يكتبون بذلك نص البرنامج. ولولا أن المشاهدين يشاركون في كتابة ما يريده "الأخ الأكبر" أن يُكتب، لظهر الأخ الأكبر كقوة خارقة للطبيعة مثل أفلام آندي وارهول: عصبي، يتباهى بشبابه، سافل ويثرثر لساعات وساعات بلا هدف. لذلك فإن ما يجعل "الأخ الأكبر" ما هو عليه الآن، هو ما يعرف باتصالات المشاهدين والمستمعين.

تشمل الحداثة الزائفة كذلك البرامج الإخبارية المعاصرة، التي يعتمد محتواها على الرسائل الإلكترونية أو النصية التي يعلق فيها المشاهد على الأخبار أثناء عرض البرنامج. ولا يسمى هذا "تفاعل" لأنه ببساطة بمجرد أن يتدخل المستمع أو المشاهد لكتاية جزء من البرنامج يعود لدوره السلبي كمتلقي، فلا يوجد أي تبادل. تشمل الحداثة الزائفة كذلك ألعاب الكمبيوتر التي تضع الفرد في سياق خلق المحتوى الثقافي، ضمن حدود مرسومة مسبقا. فيتعدد محتوى اللعبة بتعدد شخصيات اللاعبين.

كذلك فإن أكبر الظواهر الثقافية الدالة على الحداثة الزائفة هو "الإنترنت". فكرة أن الفرد بمجرد نقر الفارة يتحرك بين عدد لا نهائي من الصفحات، يخلق فضاء لمنتجات ثقافية وجدت لتوها ولن توجد مرة أخرى. ينخرط بعدها الفرد بشكل كثيف في عمليات ثقافية تعطيه إحساس زائف بأنه يتحكم ويدير ويخلق بيئته الثقافية الخاصة بمنتجاتها. فصفحات الإنترنت ليست مؤلفة، بمعنى أن لا أحد يهتم من كتبها. على الأغلب تعمل الصفحات اعتمادا على إضافات العوام مثل ويكيبيديا، أو عن طريق ردرد الفعل في التعليقات مثل مواقع التواصل. على أي حال، ما يتميز به الإنترنت بشكل جوهري هو أن أي شخص يستطيع إضافة أي صفحة (كالمدونات).

وإذا كان استخدام الإنترنت بشكل ما يوضح طبيعة مفهوم الحداثة الزائفة، فإن الحقبة الجديدة شهدت تحديث في استخدام الوسائل القديمة أيضا. فالسينما في عصر الحداثة الزائفة تبدو أكثر وأكثر مثل ألعاب الكمبيوتر. فالصور التي كانت يوما ما مأخوذة من أرض الواقع – تم تأطيرها وتعديلها ووضع موسيقاها التصويرية مِن قِـبل مخرجين محترفين لتوجيه أفكار وعواطف الناس. يضاف لها مؤثرات خاصة تجعل المستحيل يبدو واقعي وذو مصداقية، وتجعل الممكن خيالي ومصطنع، كما في فيلم سيد الخواتم أو في فيلم المصارع. أصوات الأفراد التي تظهر في المعارك هي أصوات حقيقية، لكن سينما الحداثة الزائفة جعلتها تبدو وكأنها أصوات حدثت فقط في الفضاء الإلكتروني. وهكذا أعطت السينما الحاسبات الآلية ليس فقط أرض ثقافية في تعديل الصور والمشاهد، بل جعلت ألعاب الكمبيوتر هي النموذج الذي يحدد طبيعة العلاقة بين الفيلم والمشاهد.

على نفس المنوال، فإن التلفزيون في زمن الحداثة الزائفة لا يفضل فقط برامج تلفزيون الواقع – بل أيضًا ظهر نوع جديد من القنوات وهي قنوات التسوق وبرامج المسابقات التي يشارك فيها المشاهد على أمل ربح بعض المال. وعموما بدل التحسر على الوضع الحالي، من الأفضل لنا محاولة استغلال الظروف الحالية لإنتاج محتوى ثقافي جيد بدل من هذا الفراغ. لكن من المهم أن ندرك أن العلاقة بين المشاهد وشاشات التلفزيون وبالتالي معدي البرامج التلفزيونية قد تغيرت وإلى الأبد. أصبحت وظيفة التلفزيون كبقية الفنون "هامشية": بينما أصبح المهم هو إبقاء الفرد مشغول ونشط في عمله كمتلقي سيتصل بالبرامج. يشعر المشاهد وسط كل هذا إنه حقا "مهم" و"قوي"؛ بينما هبط "المؤلف" إلى مستوى شخص عادي يضع فقط علامات النص بعد أن كان صانع النص الذي يتحرك فيه الجميع؛ أصبح "المؤلف" غير معروف ومهمش وليس على علاقة كبيرة بمحتوى النص، وأصبحت "النصوص" على قدر كبير من الإسفاف. فمن صنع هذه النصوص هو المشاهد إن لم يكن كمحتوى، فقد صنعها بتحديد نتائجها. فالفرد لا يستطيع أن يقرأ ميدل مارش لجورج إليوت عن طريق التنقل من صفحة 118 إلى 316 ومن صفحة 401 لـ 501، لكن بمقدوره قراءة شريط الأخبار من أي نقطة وسيفهم ما يحدث.

أحد سمات "النص" في فترة الحداثة الزائفة إنه لا يستمر طويلا. فمثلا، على عكس مسلسل فولتي تاورز (
Fawlty Towers)2، لا يمكن أن تكرر برامج تلفزيون الواقع نفسها أو أفكارها، حيث لا يمكن إعادة نفس الفكرة بنفس الأشخاص، وبمنع المداخلات الهاتفية تصبح البرامج أقل جاذبية. فالنص يموت بعد ساعات من استخدامه. وبالمثل عندما يعطى بعض الدارسين تواريخ لصفحات الإنترنت فإن هذا سببه أن هذه الصفحات تختفي سريعا أو تتغير. بينما من الصعب جدا أن تحافظ الرسائل الإلكترونية أو السريعة على طبيعتها؛ قد تحولهم الطباعة إلى شكل أكثر قابلية للاستمرار، كخطاب، لكن دون جدوى لأن طبيعتها الإلكترونية انمحت. نفس الأمر بالنسبة للشبكات الإذاعية وألعاب الكمبيوتر، في فترة قصيرة سيكون قد عفا عليها الزمن. وستكون الثقافة القائمة على هذه الأشياء بلا ذاكرة. لكن ليس بالشكل الذي كون الإرث الثقافي الذي أفضى إلى الحداثة وما بعد الحداثة. فالحداثة الزائفة الغير قابلة للتكرار والزائلة والتي بلا ذاكرة أيضًا: عبارة عن أعمال ثقافية تحدث في التو واللحظة ليس لها ماضي وليس لها مستقبل.

تعود جذور الحداثة الزائفة إلى الفترة التي هيمنت عليها ما بعد الحداثة. على سبيل المثال، منتجات الرقص والموسيقى والبورنوجرافي (الأعمال الإباحية المصورة)، التي ظهرت في أواخر السبعينات والثمانيات زائلة وبلا معنى على المستوى الدلالي، وينطبق الأمر ذاته على المواد غير المؤلفة أكثر من المؤلفة، فالرقص على المستوى الدلالي كان بلا معنى وزائل أكثر من الموسيقى (كالروك والبوب). فرضت هذه المنتجات على المُتلقي المشاركة، فيجب الرقص على الموسيقى الراقصة، كما أن الأعمال الإباحية لا تُشاهد أو تُسمع ولكن تُستخدم، كل هذا ولَّدَ بشكل أكبر أوهام الحداثة الزائفة ألا وهو "أن الفرد يشارك". في الموسيقى، الحداثة الزائفة للأفراد تفكك أكثر الألبومات تماسكا، يتم تحميل، مزج وتبديل المقطوعات والأغاني على الآيبود، كما أن الموسيقى المطروحة الآن يحددها المعجبين، كسلعة إستهلاكية، وفكرة أن الألبوم نص متماسك عفا عليها الزمن.

إلى حد ما، الحداثة الزائفة ليست أكثر من مجرد تحول تدفعه التكنولوجيا الحديثة نحو طرح ثقافي مختلف لطالما كان موجود حتى لو لم نلاحظه، (على سبيل المثال، لطالما كانت الميتافزيقيا موجودة إلا أنها لم تكتسب أهمية أبدا كالتي أعطتها لها فترة ما بعد الحداثة). كذلك استخدم التلفزيون المشاركات الجماهيرية كما استخدمها المسرح، لكن لم تكن المشاركة الجماهيرية حتمية في التلفزيون كالمسرح، فبرامج تلفزيون الحداثة الزائفة مبنية بشكل ما على مشاركات المشاهدين. كان هناك نماذج ثقافية أخرى "نشطة"، مثل الكرنفالات والتمثيل الإيمائي. لكن أي منها لم يكن يتحرك وفق نص مكتوب، وقد احتلت من جسد الثقافة الهوامش، فيما هيمنت نصوص الحداثة الزائفة بخصائصها على المركز بشكل برجماتي وشكلت المنتج الثقافي المعاصر، فلا يجب التعامل بسلبية مع الأنشطة التي تقف على الهامش في مقابل أنشطة الحداثة الزائفة. كانت القراءة والاستماع للموسيقى ومشاهدة التلفزيون تعتبر دائما نوعا من النشاط، لكن في الحداثة الزائفة هناك احتياج لنشاط الفرد فعليا في صناعة النص، واحتياج لنشاط الفرد في تأطير أحداث النص، هذه الهيمنة للأفراد على النصوص غيرت من توازن القوى الثقافية (لاحظ كيف أصبحت الوكالات السينمائية والتلفزيونية العملاقة بالأمس لاشيء اليوم). هذا هو ما يهيمن على الثقافة التاريخية الاجتماعية في القرن الواحد والعشرين. وعلاوة على ذلك، فهذا النشاط للحداثة الزائفة له خصوصيته: فهو إلكتروني ونصي لكنه سريع الزوال.

التحرك نحو التغيير
في ما بعد الحداثة، الشخص يقرأ، يستمع، يشاهد كالمعتاد. لكن في الحداثة الزائفة الشخص يتصل، ينقر، يطبع، يتصفح، يختار، يحمل. هنا تكمن الفجوة الجيلية، والتي تفرق بشدة بين الناس الذين ولدوا قبل 1980 وبعد 1980. يرى من ولدوا بعد 1980 أنهم وأقرانهم أحرار، مستقلين، مبتكرين، معبرين، فعالين، مسيطرين، صوتهم مميز، عالي ومسموع: ما بعد الحداثة وما قبلها على العكس من كل ذلك تبدو نخبوية، مملة، كمشهد متكرر يضهدهم ويسد الأفق أمامهم. أولئك الذين ولدوا قبل 1980 يرون، المقصود هنا ليس الناس، بل المحتوى والمشاهد والوسائل التي تتسم بالعنف، بالإباحية، بغير الواقعية، مبتذلة، مملة، استهلاكية، بلا معنى وبلهاء (أنظر لبعض الهراء الموجود على صفحات مثل ويكيبيديا). وسيكون عصر ما قبل الحداثة الزائفة بالنسبة لهم هو العصر الذهبي للذكاء، الإبداع، التمرد والأصالة. ومن هنا جاء اسم ’الحداثة الزائفة‘ الذي ينطوي ضمنيا على توتر بين التطور الذي تقدمه الوسائل التكنولوجية، وتفاهة وجهل محتواها في نفس الوقت.

وفي حين أن ما بعد الحداثة يضع الواقع محل استفهام وسؤال. تتناول الحداثة الزائفة الحقيقة على إنها "أنا" ضمنيا ما يقوم به الفرد من تفاعل مع محيطه الثقافي. وهكذا، تظهر الحداثة الزائفة أن ما يقوم به الفرد هو "الحقيقة"، تجعل الحداثة الزائفة ما يبدو إنه ’حقيقة‘ يظهر في أشكال غير معقدة: (مثلا التوثيق الحي بالكاميرات والذي يعرض على التلفزيون)؛ ينظر الناس لأنفسهم باعتبارهم مشاركين في الحدث وهذا وهم؛ مثل فيلم ’مشروع الساحرة بلير‘ – أو الأفلام الإباحية المندرجة تحت تلفزيون الواقع، أو كما في السينما الإنشائية لمايكل مور أو مورجن سبورلوك.

إلى جانب هذا التناول الجديد للواقع، فمن الواضح أن الإطار الفكري المهيمن قد تغير. ففي حين تم تأريخ النتاج الثقافي لما بعد الحداثة على نفس المنوال الذي به تم تأريخ النتاج الثقافي للحداثة والرومانسية، لكن توجهات فكرية كـ’النسوية وما بعد الكولونيالية‘ ستجد نفسها معزولة في بيئة فلسفية جديدة تمامًا. الأكاديميات، خاصة الموجودة في بريطانيا، تقع تحت ضغط ممارسات اقتصاد السوق الذي يدفع الأكاديمين لتلقين طلابهم إننا لازالنا نعيش في عصر ما بعد الحداثة الذي يسمح بتعدد الأيديولوجيات ووجهات النظر وكل الأصوات مسموعة فيه. يطارد اقتصاد السوق كل خطوة لهم، ولا يمكنهم حقا أن يعطوا عظات عن التعددية فيما يُمارس عليهم تعصب النزعة الإستهلاكية. لم يعد العالم يتوسع فكريا، بل يضيق أكثر فأكثر في السنوات العشر الماضية خاصة. لاحظ ذلك الأفول لفن الرواية الفيلسوف جان فرانسوا ليوتار، في عالم الحداثة الزائفة أيديولوجية اقتصاد السوق المعولمة هي الأيديولوجية الوحيدة المهيمنة، المحتكرة، المؤسسة والمنظمة لكافة أنواع الأنشطة – وعلى الأكاديمين الاعتراف بذلك. الحداثة الزائفة استهلاكية وتتعامل مع العالم كله على إنه سلعة.

الأمر الثاني، في حين ميزت الروح الساخرة والمتعمقة في الفهم عند التعامل مع أوهام المعرفة والتاريخ عالم ما بعد الحداثة – إلا أن الحداثة الزائفة ذات توجهات فكرية نمطية تنطوي على الجهل والتعصب والقلق: انظر إلى لوبان، بوش، بلير، بن لادن من ناحية، ومن الناحية الأخرى انظر إلى الكتل الجماهيرية الأكثر عددا والأقل قوة. تنتمي الحداثة الزائفة لعالم اجتاحه التعصب الديني للولايات المتحدة ولإسرائيل التي تقدم نفسها على إنها علمانية إلا إنها مفرطة في التعصب الديني، في مواجهة مجموعات إسلامية متعصبة حول العالم – لم توُلد الحداثة الزائفة في 11 سبتمبر 2001، لكن ما بعد الحداثة ماتت، ماتت ودفنت في هذا اليوم. في هذا السياق تستخدم الحداثة الزائفة حتى التكنولوجيا المتطورة لتكريس النزعة البربرية للقرون الوسطى – كما يحدث عندما يتم رفع فيديوهات قطع الرؤوس على الإنترنت، أو يتم تصوير التعذيب في السجون بالموبايلات. وبين هذا وذاك، مصير البقية هو الإضطراب الناجم عن العيش في ساحات الحروب. ويمتد هذا الإضطراب إلى أبعد من "الجغرافيا السياسية" ليشمل كل جانب من جوانب الحياة المعاصرة؛ الخوف العام من الانهيار الاجتماعي وفقدان الهوية، إلى القلق بشأن النظام الغذائي والصحة، للخوف من التغيرات المناخية، إلى الخوف من عدم النجاح الشخصي والفشل، إلى حد الاستسلام في النهاية للبرامج التلفزيونية التي تشرح لك من أول "كيف تنظف المنزل"، إلى "كيف تربي أطفالك"، و"كيف تنجح في حياتك؟" نحن أمام أزمة معنى معاصرة للتكنولوجيا: فوسائل التكنولوجيا في عصر الحداثة الزائفة وصلت للفضاء، إلى إننا نحتاج لأن نقول للناس أن عليهم أكل الخضروات ليكونوا بصحة جيدة! حتى هذه الحقيقة المعروفة من العصر البرونزي تحتاج التذكير بها. هل تصدق أن أحدهم يستطيع المشاركة في تحويل مسار برامج تلفزيون الدولة، لكن لا يعرف ماذا يجب أن يأكل – فالحداثة الزائفة تجمع بين المتقدم والبدائي، بين القوي والعاجز. ولأسباب متفاوتة، لا يستطيع الناس إلا الإيمان بالرواة العظام الذين ميزوا عصر ما بعد الحداثة كما يقول ليوتارد.

عالم الحداثة الزائفة هذا، مخيف ولا يمكن السيطرة عليه، يغذي روح العودة للطفولة كنوستالجيا، وهي أحد سمات الحداثة الزائفة. هنا، تحل الحالة العاطفية بأن المرء غارق في أنشطته محل الوعي المفرط الساخر بالذات في عصر ما بعد الحداثة. وفي عالم الحداثة الزائفة بدلا من اضطراب الحداثة، ونرجسية ما بعد الحداثة، خلقت الحداثة الزائفة حالة من التوحد الصامت يعيشها الإنسان غارقًا في الضياع. أنت تنقر على الفارة، تضغط على لوحة المفاتيح، فتعتقد أنك تشارك وتجتاح وتقرر. أنت المحتوى، ولا أحد آخر – أنت المؤلف، ولا يوجد مكان آخر، ولا يوجد أشخاص آخرون – أنت الآن حر، لم يعد هناك محتوى، أنت المحتوى.


د/ آلان كيربي 2006
_____________________________________________________________
1- فوكو كمرشد ما بعد حداثي:
انحسر  النشاط السياسي لفوكو في أواخر السبعينيات بعد خيبة الأمل تجاه الكفاح اليساري. وقام عدد من الشباب الماويين (الشيوعيين المتطرفين، نسبة إلى ماو تسي تونغ) بالتخلي عن معتقداتهم ليصبحوا ما يسمى "المتفلسفون الجدد"، وغالباً ما ذكروا بأن فوكو يمثل مرشداً أساسياً لهم.

2- أبراج فولتي: مسلسل سيت كوم من إنتاج بي بي سي أنتج على 12 جزء.
_______________________________________________________________


هذا المقال مُترجم عن مجلة فيلوسفي ناو، نشر بعنوان  The Death Of Postmodernism and Beyond



د/ آلان كيربي حاصل على دكتوراة في الأدب الإنجليزي من جامعة إكزتر، ويقيم حاليًا في إكسفورد.

تعليقات

  1. ترجمة امينة ورائعة لمقال يضع الكثير من النقاط على الحروف، شكرا لمشاركتنا وشكرا للجهود المبذولة

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل الكون مكتوب بلغة الرياضيات؟

لطالما استخدم العلماء الرياضيات في التعبير عن الخصائص الفيزيائية للكون.. لكن ماذا لو أن الكون بأسره بناء رياضي! هذا ما يؤمن به عالم الكونيات ماكس تيجمارك. يرى تجمارك أن كل شيء في الكون، بما في ذلك الإنسان، هو جزء مِن بناء رياضي ( mathematical structure )، قد يرى المرء أن المادة مكوَنة من جزيئات وأن للجزيئات خصائص مثل الشحنة الكهربائية والحركة، لكن تجمارك يجادل بأن هذه الخصائص هي محض رياضيات. كذلك الكون، أحد خصائصه الأبعاد، إلا إنه محض بناء رياضي. ’’لو بدأت في النظر للكون بكل ما يحتويه على إنه محض بناء رياضي، وأن لا خصائص له سوى الخصائص الرياضية. ستبدو فكرة أن كل شيء "رياضي" أقل جنونًا‘‘ .. يقول تجمارك في لقاء له اعتمادًا على كتابه "عالمنا الرياضي: سعيي لفهم طبيعة الواقع" ( Our Mathematical Universe:   My Quest For The Ultimate Nature Of Reality ) يقول تجمارك ’’لو أن أفكاري خاطئة، فإن الفيزياء ستُسحق كليًا.‘‘ مضيفًا ’’لكن لو أن الكون كله محض رياضيات، لن يكون هناك شيء عصيّ على الفهم.‘‘ Photo Credit الطبيعة مكتوبة بلغة الرياضيات.. يقوم هذا الاستنتا

جون بيري: العدميّة وأزمة المعنى

لفظ عدمية ’ Nihilism ‘ مشتق أساسًا من الكلمة اللاتينية ’ Nihil ‘ والتي تعني لاشيء. يستخدم اللفظ في عدة مواضع في الفلسفة. بمعنى: لا يوجد شيء على الإطلاق.. أو لا يوجد مباديء أخلاقية على الإطلاق.. وكل ما يُساق من لفظ ’’اللاشيء‘‘ فهو عدمي. إلا أن الاستخدام الأكثر شيوعًا، والمستخدم على نطاق واسع اليوم، هو أن لا شيء نستخدمه، نبدعه أو نحبه له أي معنى أو قيمة على الإطلاق. العدمية بشكل عام ليست مجرد تعريف لموقف فلسفي معين، بل تعبير عن ميل عام، وعن حالة من الأسى: هل هذا كل شيء؟ هل الإنسانية ليست سوى عدد من السنين لا قيمة لها على كوكب لا يميزه أي شيء عن غيره في كون لا يُلقي لنا بالًا؟ هل لأي شيء قيمة؟ بالنسبة للعديد من الناس هذه الأسئلة ليست مجرد طرح فلسفي بل وجهة نظر حداثية للإنسانية كجزء ضئيل للغاية من الكون ككل.. كما يدعي العلم. في البداية ظهرت العدمية في المعاجم الفلسفية باعتبارها ’’اتهام‘‘. لم تبدأ كغيرها من المناهج الفلسفية بأن يقول أحد الفلاسفة ’’أنا عدمي‘‘ بل ’’أنت عدمي‘‘ كاتهام. وشعر البعض أنه لو صح ما قاله البعض الآخر من الفلاسفة حول العدمية.. فسيكون كل شيء بلا معنى. في

العدمية الأخلاقية

العدمية الأخلاقية هي اتجاه فلسفي متجاوز للأخلاق باعتبار أن كل الادعاءات الأخلاقية ليست صحيحة بشكل عام. تذهب العدمية الأخلاقية إلى أنه ليس هناك حقائق أخلاقية موضوعية أو افتراضات صحيحة – لا يمكن تصنيف شيء ’’أخلاقيا‘‘ على إنه جيد أو سيء، صح أو خطأ، ... إلخ – لأنه ببساطة لا يوجد حقائق أخلاقية (مثال على العدمية الأخلاقية, أن نقول أن القتل ليس خطأ، لكنه ليس صحيح أيضًا). تختلف العدمية الأخلاقية عن القناعات الأخلاقية الذاتية، والقناعات الأخلاقية النسبية، التي تكون فيها القضايا الأخلاقية صح أو خطأ بشكل غير موضوعي، في الواقع تذهب العدمية الأخلاقية إلى عدم وضع أي حكم أخلاقي ثابت بشأن أي قضية أخلاقية. الانتقادات الموجة للعدمية الأخلاقية تأتي في المقام الأول من المذاهب الأخلاقية الواقعية مثل الأخلاقية ال طبيعية و الأخلاقية غير طبيعية ، واللاتي تجادل بأن هناك حقائق أخلاقية إيجابية. العدمية الأخلاقية بشكل ما تعتبر نتاج النظرة المتجاوزة للعدمية. تُقدم فلسفة نيكولا ميكافيللي أحيانًا على إنها نموذج للعدمية الأخلاقية، لكن يجب وضع هذا الادعاء موضع فحص لأن ميكافيللي نفسه لم يكن